29 شباط

حكومة لبنان وجنون مثلث “برمودا”

د. ناجي قديح

حكومة لبنان لم تنعتق بعد من احتباسها في مثلث “برمودا”، الذي يسيطر على عقلها في إدارة ملف النفايات. وهي بذلك تنقل الشعب اللبناني من أزمة إلى أزمة أكثر عمقا وأثرا مدمرا على البيئة والصحة العامة. عقل يضع لنفسه حدودا ضيقة بأضلاع ثلاث، تعبر عن نفسها بمفردات ثلاث: الطمر والحرق والترحيل. وهي حين يفشل معها تسلسل ما، تنفض عنها مسؤولية الأزمة وتعود لتسلسل آخر، وهكذا تنقل البلد من أزمة إلى أخرى، محققة مزيدا من نهب المال العام في إدارتها للنفايات اللبنانية.

الاستنتاج الأكثر قساوة، الذي نلحظه مع انتقال الملف من أزمة إلى أخرى، مع تتابع السنوات وامتداد الزمن، هو أن كل مكوِّنات الحكومة، والحكومات المتعاقبة، أي كل مكوِّنات السلطة السياسية التي تحكم البلاد منذ بداية التسعينات وحتى اليوم، متساوية في درجة انحباسها في هذا المثلث العجيب والخطير، الذي يبتلع كل شيء، ويلتهم أموال البلديات، دون أن يشكل فعلا حلا عاقلا وحكيما ومستداما لمسألة النفايات.

فمن يعترض على توليفة ما، أو على إخراج لصفقة ما، يكون في باله الترويج لصفقة أخرى، لا تشكل تفلتا من الاحتباس في مثلث الطمر والحرق والترحيل. بل تفضيلا لواحدة على أخرى، ويضعها في سياق “ثورجي” وكأنه يكتشف الترياق، وهو في حقيقة الأمر يدوخ من الدوران والتنقل من خيار عبثي إلى آخر، قد يرى فيه مصلحة ذاتية أو فئوية، وهو ليس حلا وطنيا بيئيا لأزمة النفايات.

يظهر هذا السياق المسرحي أكثر وضوحا مع متابعة المواقف والآراء لمختلف القوى والكتل السياسية المكوِّنة للحكومة اللبنانية. فبعد ظهور مكامن الانحراف في تطبيق “الخطة الطارئة” للعام 1997، على مدى أكثر من 17 عاما، وبدل طمر “المتبقيات” من النفايات، بعد عمليات الفرز والتدوير والتسبيخ والمعالجة، كما نصت الخطة في ذلك الوقت، تم طمر ما يزيد عن 90% من النفايات، وصولا لتفجر الأزمة الكارثية في 17 تموز 2015 وتراكم ألوف الأطنان من النفايات في شوراع العاصمة والمدن، ونقلها في الظلام وفي الضوء إلى الباحات والأنهر والهضاب والوديان، وأُعمِلت فيها النيران العشوائية مطلقة السموم في فضاء لبنان، مهددة صحة شعبه بأكبر المخاطر. ولا تزال النفايات المتراكمة والمتعفنة والمحترقة متروكة في الشوارع والساحات، ملوثة طبيعة لبنان وهوائه ومياهه حتى لحظة كتابة هذه السطور.

“الطمر” هو الحل السحري لكل اللجان والمستشارين، مدعومين بكل القوى السياسية، إلا من يحمل في رأسه مشروعا آخر لترويج “المحارق” الصغيرة الملوثة لينشرها في قرى لبنان وربوعه، موزعا ملوثاتها ومخاطرها على كل المناطق القاصية والدانية، مالئا الأثير زعيقا بأنها آخر ما أنتجته التكنولوجيا المعاصرة، وأنها الحل الترياقي لأزمة لبنان، ولو مجافيا لكل علم ومنطق.

“الطمر” والمطامر هي الحل، لنأخذ إليها نفاياتنا، فنطمرها ونرتاح منها، ونبعدها عن أعيننا. هكذا ببساطة الحكماء يرسم جهابذة البلد حلا سحريا لأزمة النفايات في لبنان. لا همَّ إن هدرنا القيمة التي تختزنها النفايات، ولا همَّ إن اخترنا مواقع المطامر عشوائيا، في الأطراف، ولو كان على بعد 140 كلم عن بيروت، في “سرار” حيث “الأراضي الرطبة”، وحيث المياه الجوفية على عمق بضعة أمتار قليلة، ولا همَّ، بل لأن المنطقة قد تعرضت عبر سنين السلوكيات العشوائية إلى تلوث خطير، يشكل خطرا قائما وتهديدا حقيقيا للأمان الصحي والبيئي لسكان عموم المنطقة ولسهل عكار، ومحصوله الزراعي من خضار وبقول. ولا همَّ إن كان المطمر في “عنجر”، أو على مقربة منها في السلسلة الشرقية، حيث تعوم المنطقة على خزان من المياه الجوفية العذبة التي لما تزل بعيدة عن مصادر التلوث.

ولا بأس لو استخدمنا كل وسائل التحريض السائد استخدامها في لبنان، وخصوصا منذ التسعينات وحتى اليوم، من طائفية ومذهبية، ومناطقية، وتمييز بين مواطنين من فئة أولى وآخرين من فئة ثانية وثالثة. ولا بأس لو مورست الضغوط و”المونة” السياسية وغير السياسية على الشعب المسكين لكي يقبل بصفقات زعمائه، في وضع اليد على ملايين الدولارات من مال البلديات والمال العام، من خلال حلول “المفردة” الواحدة في مثلث “برمودا”، البالوعة المرعبة.

فشلت خطة “المطامر” التي لم تحترم ولو الحد الأدنى من الرؤية البيئية لإدارة النفايات، ولا الحد الأدنى من معايير ومواصفات الموقع، من الناحية الطبيعية، الجيولوجية والهيدروجيولوجية، ولا لناحية حماية السكان من الأثار المحتملة لجهة التعرض للروائح والانبعاثات والغازات. ولا من حيث المبدأ، فيما يتعلق بماذا نطمر؟ وهم في بالهم طبعا طمر كل النفايات.

إذن، إلى “الترحيل” در. فالترحيل هو الحل الذي لا بد منه، الممر الإلزامي، الذي لا مهرب لنا من عبوره، ولو لفترة مؤقتة، من 18 شهرا. وبالمناسبة، فترة الـ 18 شهرا تكررت في كل مراحل الخطط “الجهبذية” التي تم طرحها والتداول فيه. وفترة الـ 18 شهرا، قابلة للتجديد لفترة أخرى فنصبح على بعد سنوات ثلاث، هي كافية للسير بالحارق ووضعها موضع التنفيذ الفعلي. إذن حقيقة الخطة، “ترحيل” كخطوة الضرورة، ملحوقة بـ”الحرق” كحل نهائي، وصفقة دسمة ثابتة وطويلة المدى.

لا همَّ إن أطلقنا على “الترحيل” صفات مختلفة، “أبغض الحلال”، “المرحلة المؤقتة”… المهم أن تمر هذه الصفقة، ونبقى نمددها حتى تصبح “المحارق” جاهزة للتشغيل.

ولكنهم محكومون بعقل لا يفرز إلى “صفقات” من خارج المسار القانوني والشرعي، فكان أن رفسوا بأقدامهم كل موجبات وضع دفتر شروط، وتنظيم مناقصات وفق القانون. “لا شيء يعلو فوق صوت المعركة”، فالترحيل، لا يحتمل الانتظار، وعلينا تدبير أمره كيفما اتفق، وشركات مجهولة الهوية تتخذ صفة العالمية، لحياكة صفقة مشبوهة في كل تفاصيلها، وتتخذ من الغموض والعتمة والظلام ستارا لتمرير ضربتها غير واضحة المعالم، والتي شكلت ولا تزال تشكل أحجية عصية على الحل. فما هي الأسباب التي دفعت حكومة لبنان للسير في الطرق العوجاء، والسبل غير القانونية لـ”ترحيل” نفاياتها؟ لا علم لنا بما يبرر هذا السلوك العجيب. فلو كانت الأمور نظيفة من أساسها، لكانت سلكت طريق “بازل”، فهي طريق واضحة المعالم ومضاءة التعاريج.

وقفنا بالمبدأ ضد هذا القرار، الذي أوحت به طاولة “الحوار”، وهذا بحد ذاته كان مثار العجب والاستهجان، كيف يمكن أن يلتئم إجماع على قرار لا يعرف من تفاصيله شيء؟ وكيف يمرره الجميع؟ على الرغم من أنهم طرحوا التساؤلات، ولم تخف وسائل إعلام معظمهم تشكيكها ورفضها الضمني لمغامرة “الترحيل” هذه. ولكن كل ذلك لم يَرقَ إلى مستوى الاعتراض الفعلي، أو الاعتراض المعطل للقرار، أو الذي يضطره للكشف عن تفاصيله التي بقيت عصية على معظم وزراء حكومتنا. لا ضير في ذلك، أوليس رئيس الحكومة مارس ضغوطه المتنوعه في أكثر من اجتماع للحكومة؟ مرة لتمرير قرار “الترحيل”، ومرة لتمرير قرار صرف 50 مليون دولار لتغطية انطلاقته، حتى وإن كانت عملية الترحيل لم تكن قد اكتملت أوراقها القانونية بعد. بل أكثر من ذلك، بدأ تدوال مقترحات لزيادة ضرائب جديدة على البنزين لتغطية تكاليف هذه الصفقة الفضيحة بمئات ملايين الدولارات من خبز فقراء لبنان وحليب أطفالهم ودواء مرضاهم. كل ذلك قبل اكتمال أوراق الصفقة.

إن انهيار “الترحيل” وسقوطه الفضائحي المدوي، لم يحرج أحدا، وكأنه قرار اتخذته حكومة “القمر” أو مجلس وزراء “المريخ”، وليس حكومة لبنان، حيث يحمل وزراؤها أسماء ثلاثية، وأرقام سجل على هوياتهم. بل بالعكس، انبروا، زرافات ووحدانا لقراءة التحاليل المتذاكية على اللبنانيين المساكين، ضحية مخططات حكومتهم، وضحية اعتماد وسائل جرمية، من تزوير واستعمال المزور، لشركات مررت الحكومة آليات اختيارها والتعاقد معها بعيون مقفلة، وذهن مشتت.

هل تحرر وزراء لبنان وقواه السياسية في السلطة من حبس مثلث “برمودا”؟ لا يبدو أن كل هذه الزلازل كانت كافية ليتحرر فكر مكونات الحكومة، إن لم يكن كلها، فبعضها على الأقل. فهذا من رأى أن الوقت ملائم لدفع حملاته الترويجية للمحارق الصغيرة الملوثة إلى مستويات غير مسبوقة. سقط “الترحيل” فلا بد من صعود “الحرق” الآن، الآن وليس غدا، فمحرقة “ضهور الشوير” قد بدأت تلوين سماء المنطقة بدخانها الأسود الكثيف تارة، وبدخانها الأبيض “المضيء” تارة أخرى، لينعم أهالي المنطقة بما تبثه لهم في الأجواء من سموم، ترى بالعين أو لاترى، لا فرق، المهم أنها تهدد صحة المواطنين الآن ولسنوات طويلة آتية.

وانبرى آخرون، ليتلوا علينا خلاصات صارمة بإطلاقها، وكأنها تختزن الحقيقة كلها، ولم يفلت منها ولا فتات صغير يصلح “لتركيب جملة مفيدة”. فالمفردة الواحدة التي يتكون منها المثلث العجيب كافية، وفيها تتكثف حقيقة إدارة النفايات اللبنانية، المتميزة عن كل نفايات العالم، بما يجعلها لا تعالج إلا “بمفردة” واحدة، وهي في هذه الحالة بعد سقوط “الترحيل” المطامر، نعم “المطامر”، لا أمزح معكم، فالمطامر، والمطامر فقط، تبين أنها الحل الوحيد لنفايات لبنان، ولا شيء غير المطامر. لا تتعبوا أنفسكم ولا تجهدوا عقولكم، فهاكم كل الحقيقة موضبة في كلمة واحدة.

أيها اللبنانيون، ليس هناك حلاً إلا “المطامر”، إذن إلى المطامر در. وهذه المرة، بكل بساطة وشفافية، كحل مؤقت وننتقل بعده إلى “المحارق”، أو ما يحلو لهم تسميته بالتفكك الحراري، فهذه “موضة” دارجة اليوم، لا يفوتهم إلا أن يضيفوا عليها عبارة: “من الجيل الرابع”، لكي تكتمل سمفونية “المحارق” إثر “المطامر” بعد انفجار “الترحيل” العظيم.

أما الجملة المفيدة، التي تقول بـ”الإدارة المتكاملة، المرتكزة على تطوير وتعميم معامل الفرز والتدوير والتسبيخ والمعالجة، مما يسمح باسترداد القيمة الموجودة في النفايات، لتعويض جزء مهم من الكلفة الإجمالية لهذه الإدارة المتكاملة، التي هي بالأصل كلفة محدودة”، تبقى عصية على عقول السلطة السياسية في لبنان بكل مكوناتها بلا استثناء.

لا أحد يكلف خاطره بالتحرر من سجن مثلث “برمودا”، فهذا المثلث يبلع من فيه، ولا أمل لأي أحد بالإفلات من جبروته. إنه بالوعة أموال البلديات وآمال اللبنانيين ببناء دولة يسود فيها العقل، لا جنون مثلث “برمودا”.

http://greenarea.me/ar/111919/%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D8%A9- %D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%AC%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%85%D8%AB%D9%84%D8%AB-%D8%A8%D8%B1%D9%85%D9%88%D8%AF%D8%A7/

 

تغريد
الدخول للتعليق